فصل: تفسير الآية رقم (92):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (83):

{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)}
قلت: {على قومه}: متعلق بحجتنا، إن جُعل خبرًا عن {تلك}، وبمحذوف، إن جعل بدلَه، أي: وتلك الحجة آتيناها إبراهيم حُجة على قومه. ومن قرأ: {درجات}: بالتنوين؛ فَمن نشاء: مفعول، و{درجات}: تمييز.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه}، إشارة إلى ما تقدم من استدلاله على وحدانيته تعالى بأُفول الكوكب والقمر والشمس، واحتجاجه بذلك على قومه، وإتيانه إياها: وإرشاده لها وتعليمه إياها، قال تعالى: {نرفع درجات من نشاء} في العلم والحكمة، أو في اليقين والمعرفة، {إن ربك حكيم} في رفعه وخفضه، {عليم} بحال من يرفعه ويخفضه، وبحال الاستعداد لذلك.
الإشارة: رفعُ الدرجات في جنات الزخارف يكون بالعلم والعمل وزيادة الطاعات، ورفع الدرجات في جنة المعارف يكون بكبر اليقين. والترقي في شهود رب العالمين. وذلك بحسب التبتل والانقطاع، والتفرغ من شواغل الحس ودوام الأُنس. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (84- 90):

{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)}
قلت: الضمير في {ذريته} لإبراهيم عليه السلام؛ لأن الحديث عليه، أو لنوح عليه السلام؛ لذكر لوط، وليس من ذرية إبراهيم، لكنه ابن أخيه فكأنه ابنه، و{داود}: عطف على {نوح}؛ أي: وهدينا من ذريته داود، و{من آبائهم}: في موضع نصب، عطف على {نوح}؛ أي وهدينا بعض آبائهم، والهاء في {اقتده}: للسكت، فتحذف في الوصل، ومن أثَبتها راعَى فيها خط المصحف، وكأنه وصلَ بنية الوقف.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ووهبنا} لإبراهيم {إسحاق} ابنه، {ويعقوب} حفيده، {كُلاًّ} منهما {هدينا} {ونوحًا} قد هديناه {من قبل} إبراهيم، وعدَّه نعمة على إبراهيم؛ من حيث إنه أبوه، وشَرفُ الوالد يتعدَّى إلى الولَد، {ومن ذريته} أي: إبراهيم، {داود} بن أيشا، {وسليمان وأيوب} بن قوص بن رَازَح بن عيصُو بن إسحاق {ويوسف} بن يعقوب بن إسحاق، {وموسى وهارون} ابنا عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب. {وكذلك نجزي المحسنين} أي: نجزي المحسنين جزاء مثل ما جازينا إبراهيم؛ برفع درجاته وكثرة أولاده، وجعل النبوة فيهم.
{وزكريا} بن آذنِ بن بَركيَا، من ذرية سليمان، {ويحيى} بن زكريا، {وعيسى} ابن مريم بنت عمران، وفيه دليل على أن الذرية تتناول أولاد البنت، {وإلياس} بن نُسى فنحاص بن إلعَازر بن هارون. وقيل: هو إدريس جَد نوح، وفيه بُعد. {كلٌّ من الصالحين} الكاملين في الصلاح، وهو الإتيان بما ينبغي والتحرز مما لا ينبغي.
{وإسماعيل} بن إبراهيم، قد هدينا أيضًا، وهو أكبر ولد إبراهيم، وهو ابن هاجر، {واليسع} بن أخطوب بن العجوز، وقرئ: {والليسع} بالتعريف، كَأن أصله: ليسع، وأل فيه: زائدة، لا تفيد التعريف؛ لأنه علَم، {ويونس} بن متى، اسم أبيه، وهو من ذرية إبراهيم، خلافًا للبيضاوي. قال القرطبي: لم يبعث الله نبيًا من بعد إبراهيم إلا من صُلبه. اهـ. ويونس مثلث النون كيوسف، يعني بتثليث السين. {ولوطًا} هو ابن هاران أخى إبراهيم، فهو ابن أخيه، وقيل: ابن أخته، فقد يُطلق على العم أب مجازًا، {وكُلاًّ فضلنا على العالمين} أي: عالَمِي زمانِهم بالنبوة والرسالة، فكل واحد فِضِّل على أهل زمانه.
{ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم} أي: فضَّلنا هؤلاء وبعض آبائهم وذرياتهم، أو هدينا هؤلاء وبعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم، {واجتبيناهم} أي: اخترناهم للرسالة واصطفيناهم للحضرة، {وهديناهم إلى صراط مستقيم}؛ الذي يُوصل إلى حضرة قدسنا. {ذلك هُدَى الله} أي: ذلك الدين الذي دانوا به هو هدى الله {يهدي به} أي: بسببه، {من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون}، تحذيرًا من الشرك، وإن كانوا معصومين منه.
{أولئك الذين آتيناهم الكتاب} أي: جنس الكتب، {والحُكم} أي: الحكمة، أو الفصل بين العباد، على ما يقتضيه الحق، {والنبوة}؛ الرسالة {فإن يكفر بها هؤلاء}: أهل مكة، {فقد وكَّلنا بها} أي: بالإيمان بها والقيام بحقوقها، {قومًا ليسوا بها بكافرين}؛ وهُم الأنبياء المذكورون، وتابعوهم، وقيل: الصحابة المهاجرون والأنصار، وهو الأظهر.
وقيل: كل مؤمن، وقيل: الفرس. والأول أرجح؛ لدلالة ما بعده عليه، وهو قوله: {أولئك الذين هَدى الله}، الإشارة إلى الأنبياء المذكورين، {فبهداهم اقتَدِه} أي: اتبع آثارهم، والمراد بهديهم: ما توافقوا عليه من التوحيد وأصول الدين، دون الفروع المختلف فيها، فإنها ليست هدى مضافًا إلى الكل، ولا يمكن التأسِّي بهم جميعًا؛ فليس فيه دليل على أنه عليه الصلاة والسلام متعبّد بشرع مَن قبله. قاله البيضاوي.
{قل لا أسألُكم عليه} أي: التبليغ أو القرآن، {أجرًا} أي: جُعلاً من جهتكم، كحال الأنبياء قبلي؛ اقتداء بهم فيه، فهو من جملة ما أمر بالاقتداء بهم فيه، {إن هو} أي: ما هو، أي: التبليغ أوالقرآن، {إلا ذكرى للعالمين}؛ إلا تذكرة وموعظة لهم.
الإشارة: فُضَّل هؤلاء السادات على أهل زمانهم بما هداهم إليه من أنوار التوحيد وأسرار التفريد، وبما خصهم به من كمال العبودية والآداب مع عظمة الربوبية. وفي قوله لحبيبه: {فبهداهم اقتده} فتح لباب اكتساب التفضيل، فكلَّ مَن اقتدَى بهم فيما ذُكر شُرِّف على أهل زمانه، وقد جمع في حبيبه صلى الله عليه وسلم ما افترق فيهم، وزاد عليهم بالمحبة ورفع الدرجات، فكان هو سيد الأولين والآخرين، فكل من اقتدى به في أفعاله وأقواله وأخلاقه نال من السيادة بقدر اقتدائه، وأمرُه سبحانه له بالاقتداء بهم، إنما هو في الآداب، وكان ذلك قبل أن يتَرقَّى عنهم إلى مقامه الذي خصَّه الله به. للأنبياء سيرًا وتَرَقِّيَا يليق بهم. كما للأولياء سيرٌ وتَرَقٍّ يليق بهم.
قال الورتجبي: أمَر حبيبَه عليه الصلاة والسلام بالاقتداء بالأنبياء والرسل قبلَه في آداب الشريعة، لأن هناك منازلَ الوسائط، فإذا أوصله بالكُلِّية إليه، وكَحّل عيون أسراره بكُحل الربوبية، جعَله مستقلاً بذاته مستقيمًا بحاله، وخرج عن حَدِّ الإرادة إلى حد المعرفة والاستقامة، وأمره بإسقاط الوسائط، حتى قال: «لَو كَانَ مُوسَى حَيًا ما وَسِعَهُ إلاَّ اتّبِاعي»، وغير ذلك. اهـ. وقال الشاذلي رضي الله عنه: أمَره بالاقتداء بهم فيما شاركوه فيه، وإن انفرد عنهم بما خُصَّ به. اهـ.

.تفسير الآية رقم (91):

{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)}
يقول الحقّ جلَ جلاله: في الرد على اليهود: {وما قدروا الله حق قدره} أي: ما عَرفُوه حق معرفته في الرحمة والإنعام على العباد بالوحي وغيره، إذ لو عرفوه لَهابُوا أن يُنكروا بعثة الرسل، أو ما جَسَرُوا على هذه المقالة، أو ما عظموه حق تعظيمه. حيث كذَّبوا رسله وأنكروا أن يكون أنزل عليهم كتابًا، إذ لو عظِّموه حق تعظيمه لصدَّقوا الرسول الوارد عنه، وهو معنى قوله: {إذ قالوا ما أنزل الله على بَشَرٍ من شيء}، والقائلون هم اليهود، كفنحاص ومالك بن الصيف وغيرهما، قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فردَّ الله عليهم بما لابد لهم من الإقرار به وهو إنزال التوراة على موسى؛ فقال: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهُدًى للناس}، فالنور للبواطن، والهداية للظواهر، {تجعلونه} أي: التوارة، {قراطيسَ} أي: تُجَزِّؤُونه أجزاء متفرقة، ما وافقَ أهواءكم أظهرتموه وكتبتموه في ورقات متفرقة، وما خالف أهواءكم كتمتموه وأخفيتموه.
رُوِي أنَّ مَالك بنَ الصَّيفِ قاله، لَمّا أغضَبَهُ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «أُنشدُكُ الله الذي أنزَلَ التَّورَاة عَلَى مُوسَى، هَل تجِد فيها أنَّ الله يبغضَ الحَبرَ السَّمِين، فَأنتَ الحَبرُ السّمِين»، فغَضب، وقال: ما أنزَلَ الله علَى بَشَرٍ مِن شَيء، فَرَّدّ الله عَلَيهِ بِما تقَّدم. وقيل: القائلون ذلك: المشركون، وإلزامهُم بإنزال التوراة؛ لأنه كان مشهورًا عندهم يُقِرُّون به، ولذلك قالوا: {أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهدى مِنْهُمْ} [الأنعَام: 157].
{وعُلِّمتُم} على لسان محمد صلى الله عليه وسلم {ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم}، زيادة على ما في التوراة وبيانًا لما التبس عليكم على آبائكم الذين كانوا أعلم منكم. ونظيرهُ: {إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَقَصُّ عَلَى بَني إِسْرَاءِيلَ أَكْثَرَ الِّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النَّمل: 76] أو: وعُلِّمتم من التوراة ما لم تكونوا تعلَّمتم أنتم ولا آباؤكم قبل إنزاله، وإن كان الخطاب لقريش؛ فالذي عُلِّموه: ما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم من القَصص والأخبار.
ثم أجاب عن استفهامه بقوله: {قُل اللهُ} أي: أنزلَه الله، أو الله أنزله. قال البيضاوي: أمره بأن يجيب عنهم؛ إشعارًا بأن الجواب بهذا مُتَعيّن لا يمكن غيرُه، وتنبيهًا على أنهم بُهتُوا بأنهم لا يقدرون على الجواب. اهـ. {ثم ذَرهُم في خوضهم يلعبون} في أباطيلهم. فلا عليك بعد التبليغ وإلزام الحجة، وأصلُ الخَوض في الماء، ثم أستُعير للمعاني المُشكِلة، وللقلوب المتفرقة في أودية الخواطر.
الإشارة: يُفهَم من الآية أنَّ من أقَرَّ بإنزال الكتب وآمن بجميع الرسل، فقد قَدَر الله حق قدره وعظَّمه حق تعظيمه. وهذا باعتبار ضعف العبد وعجزه وجهله؛ وإلاَّ فتعظيم الحق حق تعظيمه، ومعرفته حق معرفته، لا يمكن انتهاؤها، ولا الوصول إلى عشر العشر منها.
قال تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]، وقال: {كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ} [عَبَسَ: 23] فلو بقي العبد يترقى في المعرفة أبدًا سرمدًا، ما عرف الله حق معرفته، حتى ينتهي إلى غايتها، ولو بقي يعبد أبد الأبد ما قام بواجب حقه.
وقوله تعالى: {قل الله} استشهد به الصوفيةُ، في طريق الإشارة، على الانفراد والانقطاع إلى الله، وعدم الالفتات إلى ما عليه الناس من الخوض والاشتغال بالأغيار والأكدار، والخروج عنهم إلى مقام الصفا، وهو شهود الفردانية، والعكوف في أسرار الوحدانية. قال ابن عطاء الله لما تكلم على أهل الشهود قال: (لأنهم لله لا لشيء دونه، {قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون}). وقد يُنكِر عليهم من لم يفهم إشارتهم، تجمدًا ووقوفًا مع الظاهر، وللقرآن ظاهر وباطن لا يعرفه إلا الربانيون. نفعنا الله بهم، آمين.

.تفسير الآية رقم (92):

{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك} أي: كثير البركة، حسًا ومعنًى، لكثرة فوائده وموم نفعه، أو: كثير خيره، دائم منفعته، قال القشيري: مبارك: دائم باق، لا ينسخُه كتابٌ، من قولهم: بَرك الطير على الماء. اهـ. {مُصدقُ الذي بين يديه} من الكتب المتقدمة. {ولتُنذر} أنت {أُمَّ القرى} أي: مكة، {ومَنْ حولها} من المشرق والمغرب أو لينذر القرآنُ أمَّ القرى ومن حولها أي: أنزلناه للبركة والإنذار، وإنما سميت مكة أمَّ القرى؛ لأنها قبلة أهل القرى وحجهم ومجمعهم، وأعظم القرى شأنًا. وقيل: لأن الأرض دُحِيت من تحتها أو لأنها مكان أول بيت وضُع للناس.
{والذين يؤمنون بالآخرة} هم الذين {يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون}؛ لأنَّ من مصدق بالآخرة، وخاف عاقبتها، تحرى لنفسه الصواب، وتفكر في صدق النجاة، فآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وصدّق بما جاء به، وحافظ على مراسم الشريعة، وأهمها: الصلاة؛ لأنها عماد الدين وعلم الإيمان، من حافظ عليها حفظ ما سواها، ومن ضيَّعها ما سواها.
الإشارة: مفتاح القلوب هو كتاب الله، وهو عُنوان السير، فمن فُتح له في فهم كتاب الله، عند سماعه والتدبر في معانيه، فهو علامة فتح قلبه، فلا يزال يزداد في حلاوة الكلام، حتى يُشرف على حلاوة شهود المتكلم من غير واسطة؛ وذلك غاية السير، وابتداء الترقي في أنوار التوحيد وأسرار التفريد، التي لا نهاية لها. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (93- 94):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)}
قلت: {كما خلقناكم}: بدل من {فُرَادى}، أو حال ثانية، و{لقد تقطع بينكم}؛ من قرأ بالرفع، فهو فاعل، أي: تقطع وصلُكم، ومن قرأ بالنصب، فظرف، على إضمار الفاعل، أي: تقطع الاتصال بينكم، أو على حذف الموصول؛ لقد تقطع ما بينكم.
يقول الحقّ جلَ جلاله: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا} فزعم أنه يوحى إليه، كمسيلمة الكذاب والأسود العَنسي، أو: غيَّر الدين، كعَمرو بن لحي وأمثاله {أو قال أُوحي إليَّ ولم يُوحَ إليه شيء} كابن أبي سَرح ومن تقدم، إلا من تاب، كابن أبي سرح. {ومَن قال سأنزل مثل ما أنزل الله} الذين قالوا: {لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلِ هَذَا} [الأنفَال: 31] كالنضر بن الحارث وأشباهه.
{ولو ترى إذ الظالمون} من اليهود والكذابين والمستهزئين، حين يكونون {في غمرات الموت}: شدائده {والملائكة باسطو أيديهم} لقبض أرواحهم، أو بالضرب لوجوههم وأدبارهم، قائلين لهم: {أخرجوا أنفسكم} من أجسادكم؛ تغليظًا عليهم، {اليوم} وما بعده {تُجزون عذاب الهون} أي: الهوان، يريد العذاب المتضمن للشدة والهوان، وإضافته للهوان لتمكنه فيه. وذلك العذاب {بما كنتم تقولون على الله غير الحق}، كادعاء النبوة كذبًا، وادعاء الولد والشريك لله، {وكنتم عن آياته تستكبرون} فلا تستمعون لها، ولا تؤمنون بها، فلو أبصرت حالهم ذلك الوقت لرأيت أمرًا فظيعًا وهولاً شنيعًا.
يقول الحق سبحانه لهم: {ولقد جئتمونا} للحساب والجزاء، {فُرادى}. متفرَّدين عن الأعوان والأوثان، أو عن الأموال والأولاد، وهذا أولى بقوله: {كما خلقناكم أول مرة} أي: على الهيئة التي وُلدتم عليها من الانفراد والتجريد حفُاة عُراة غُرلاً {وتركتم ما خولناكم} أي: تفضَّلنا به عليكم من الدنيا فشُغلتم به عن الآخرة، {وراء ظهوركم}، فلم تقدموا منه شيئًا، ولم تحملوا معكم منه نقيرًا، {وما نرى معكم شفعاءكم} أي: أصنامكم {الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء} أي: أنهم شركاء مع الله في ربوبيتكم واستحقاق عبادتكم، {لقد تقطَّع بينكم} أي: تفرَّق وصلُكم وتشتت شملكم، {وضَلَّ} أي: غاب {عنكم ما كنتم تزعمون} أنهم شفعاؤكم، أو لا بعث ولا حساب الظهور كذبكم.
الإشارة: كل من ادعى حالاً أو مقامًا، يعلم من نفسه أنه لم يُدركه ولم يتحقق به، فالآية تَجُرُّ ذيلَها عليه. وفي قوله: {ولقد جِئتُمُونَا فرادى...} إلخ، إشارة إلى أن الدخول على الله والوصول إلى حضرته، لا يكون إلا بعد قطع الطلاق والعوائق والشواغل كلها، وتحقيق التجريد ظاهرًا وباطنًا؛ إذًا لا تتحقق الفردانية إلا بهذا.
وقال الورتجبي: ولي هنا لطيفةٌ أخرى، أي: ولقد جئتمونا موحدِّين بوحدانيتي شاهدين بشهادتي، بوصف الكشف والخطاب، كما جئتمونا من العدَم في بدء الأمر، حين عَرَّفتُكم نفسي بقولي: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} [الأعرَاف: 172] بلا إشارة التشبيه وغلط التعطيل، كما وصفهم نبيه صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ مَولُد يُولَدُ عَلَى الفِطرَةِ»، يعني: على فطرة الأزل بلزوم سمة العبودية بلا علة الاكتساب، عند سبق الإرادة. انتهى. قلت: وحاصل كلامه، أن مجيئهم فُرادى، كناية عن دخولهم الحضرة القدسية بعد تقديس الأرواح وتطهيرها، حتى رجعت لأهلها، كما خلقها أول مرة، أعني: مقدسة من شواهد الحس، مُطهرة من لُوثِ الإغيار، على فطرة الأزل، فشبه مجيئها الثاني بعد التطهير ببروزها الأول، حين كانت على أصل التطهير، كأنه قال: ولقد جئتمونا فرادى من الحس وشهود الغير كما خلقناكم كذلك في أول الأمر. والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: {وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم} أي: من العلوم الرسمية، والطاعات البدنية والكرامات الحسية، قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي العارف: كنت أعرف أربعة عشر عِلمًا، فلما علمت علم الحقيقة شرطت ذلك كله، فلم يبق لي إلا التفسير والحديث والمنطق. اهـ. وقوله تعالى: {وما نرى معكم شفعاءكم} إشارة إلى أنهم دخلوا من باب الكرم لا من باب العمل. والله تعالى أعلم.